فصل: قال الثعلبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الماوردي:

قوله تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ} فيه قولان:
أحدهما: أنه خطاب للنصارى خاصة.
والثاني: أنه خطاب لليهود والنصارى، لأن الفريقين غلوا في المسيح، فقالت النصارى: هو الرب، وقالت اليهود: هو لغير رشدة، وهذا قول الحسن.
والغلو: مجاوزة الحد، ومنه غلاء السعر، إذا جاوز الحد في الزيادة، وغلا في الدين، إذا فرط في مجاوزة الحق.
{وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ} يعني في غلوهم في المسيح.
{إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ} ردًا على مَنْ جعله إلهًا، أو لغير رشدة [أو] ساحرًا.
{وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} في كلمته ثلاثة أقاويل:
أحدها: لأن الله كَلَّمَه حين قال له كن، وهذا قول الحسن، وقتادة.
الثاني: لأنه بشارة الله التي بشر بها، فصار بذلك كلمة الله.
والثالث: لأنه يهتدى به كما يُهْتَدَى بكلام الله.
{وَرُوحٌ مِّنْهُ} فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: سُمِّي بذلك لأنه رُوح من الأرواح، وأضافه الله إلى نفسه تشريفًا له.
والثاني: أنه سُمِّي روحًا؛ لأنه يحيا به الناس كما يُحْيَون بالأرواح.
والثالث: أنه سُمِّي بذلك لنفخ جبريل عليه السلام، لأنه كان ينفخ فيه الروح بإذن الله، والنفخ يُسَمَّى في اللغة روحًا، فكان عن النفخ فسمي به. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {يا أهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ} نهي عن الغلوّ.
والغلوّ التجاوز في الحدّ؛ ومنه غلا السعر يغلو غلاء؛ وغلا الرجل في الأمر غلوّا، وغلا بالجارية لحمُها وعظمُها إذا أسرعت الشباب فجاوزت لِداتِها؛ ويعنى بذلك فيما ذكره المفسرون غلوّ اليهود في عيسى حتى قذفوا مريم، وغلوّ النصارى فيه حتى جعلوه رَبًّا؛ فالإفراط والتقصير كله سيئةٌ وكفرٌ؛ ولذلك قال مطرِّف بن عبد الله: الحسنة بين سيِّئتين؛ وقال الشاعر:
وأوِف ولا تسوِف حقَّك كلَّه ** وصافح فلم يستوفِ قَطُّ كريمُ

ولا تَغْلُ في شيءٍ من الأمر واقتصد ** كِلاَ طرَفيْ قصْدِ الأُمورِ ذَمِيمُ

وقال آخر:
عليك بأوساطِ الأُمور فإنها ** نَجاةٌ ولا تركَبْ ذَلولًا ولا صَعْبَا

وفي صحيح البخاريّ عنه عليه السلام: «لا تُطروني كما أطْرَتِ النصارى عيسى وقولوا عبدُ الله ورسولُه».
قوله تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق} أي لا تقولوا إن له شريكًا أو ابنا.
ثم بيّن تعالى حال عيسى عليه السلام وصفته فقال: إنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابن مَرْيَمَ رُسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ.
وفيه ثلاث مسائل:
الأُولى قوله تعالى: {إِنَّمَا المسيح} المسيح رفع بالابتداء؛ و{عِيسى} بدل منه وكذا {ابن مَرْيَمَ}.
ويجوز أن يكون خبر الابتداء ويكون المعنى: إنما المسيحُ ابن مريم.
ودَلّ بقوله: عِيسى ابن مريم على أن من كان منسوبًا بوالدته كيف يكون إلهًا، وحق الإله أن يكون قديمًا لا مُحدَثا.
ويكون رسُولُ اللَّهِ خبرًا بعد خبر.
الثانية لم يذكر الله عز وجل امرأة وسمّاها باسمها في كتابه إلا مريم ابنة عمران؛ فإنه ذكر اسمها في نحوٍ من ثلاثين موضعًا لحكمة ذكرها بعض الأشياخ؛ فإن الملوك والأشراف لا يذكرون حرائرهم في الملإ، ولا يبتذلون أسماءهنّ؛ بل يكنون عن الزوجة بالعِرس والأهل والعِيال ونحو ذلك؛ فإن ذكروا الإماء لم يكنوا عنهنّ ولم يصونوا أسماءهنّ عن الذكر والتصريح بها؛ فلما قالت النصارى في مريم ما قالت، وفي ابنها صرح الله باسمها، ولم يكن عنها بالأُمُوّة والعبودية التي هي صفة لها؛ وأجرى الكلام على عادة العرب في ذكر إمائها.
الثالثة اعتقاد أن عيسى عليه السلام لا أب له واجب، فإذا تكرر اسمه منسوبًا للأُم استشعرت القلوب ما يجب عليها اعتقاده من نفي الأب عنه، وتنزيه الأُم الطاهرة عن مقالة اليهود لعنهم الله. والله أعلم.
قوله تعالى: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ} أي هو مكوّن بكلمة كن فكان بشرًا من غير أب، والعرب تسمي الشيء باسم الشيء إذا كان صادرًا عنه.
وقيل: كلِمته بشارة الله تعالى مريم عليها السلام، ورسالته إليها على لسان جبريل عليه السلام؛ وذلك قوله: {إِذْ قَالَتِ الملائكة يامريم إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ} [آل عمران: 45].
وقيل: الكلِمة هاهنا بمعنى الآية؛ قال الله تعالى: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبَّهَا} [التحريم: 12] و{مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله} [لقمان: 27].
وكان لعيسى أربعة أسماء؛ المسيح وعيسى وكلمةٌ ورُوحٌ، وقيل غير هذا مما ليس في القرآن.
ومعنى أَلْقَاها إلَى مَرْيَمَ أمر بها مريم.
قوله تعالى: {وَرُوحٌ مِّنْهُ}.
هذا الذي أوقع النصارى في الإضلال؛ فقالوا: عيسى جزء منه فجهلوا وضلوا؛ وعنه أجوبة ثمانية؛ الأوّل قال أُبيّ بن كعب: خلق الله أرواح بني آدم لما أخذ عليهم الميثاق؛ ثم ردّها إلى صلب آدم وأمسك عنده روح عيسى عليه السلام؛ فلما أراد خلقه أرسل ذلك الرّوح إلى مريم، فكان منه عيسى عليه السلام؛ فلهذا قال: {وَرُوحٌ مِّنْهُ}.
وقيل: هذه الإضافة للتفضيل وإن كان جميع الأرواح من خلقه؛ وهذا كقوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [الحج: 26] وقيل: قد يسمى من تظهر منه الأشياء العجيبة روحًا، وتضاف إلى الله تعالى فيقال: هذا روح من الله أي من خلقه؛ كما يقال في النعمة إنها من الله.
وكان عيسى يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى فاستحق هذا الاسم.
وقيل: يسمى روحًا بسبب نفخة جبريل عليه السلام، ويسمى النفخ روحًا؛ لأنه ريح يخرج من الروح قال الشاعر هو ذو الرمة:
فقلتُ له ارفعها إلَيكَ وأحْيِها ** بِرُوحِكَ واقتته لها قِيتَةً قَدْرا

وقد وَرَد أن جبريل نفخ في دِرْع مريم فحمَلتْ منه بإذن الله؛ وعلى هذا يكون {وَرُوحٌ مِنْهُ} معطوفًا على المضمر الذي هو اسم الله في {أَلْقَاهَا} التقدير: ألقى الله وجبريل الكلمة إلى مريم.
وقيل: {رُوحٌ مِنْهُ} أي من خلقه؛ كما قال: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض جَمِيعًا مِّنْهُ} [الجاثية: 13] أي من خلقه.
وقيل: {رُوحٌ مِنْهُ} أي رحمة منه؛ فكان عيسى رحمة من الله لمن اتبعه؛ ومنه قوله تعالى: {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ} [المجادلة: 22] أي برحمة، وقرئ {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} [الواقعة: 89].
وقيل: {وَرُوحٌ مِنْهُ} وبرهان منه؛ وكان عيسى برهانًا وحجة على قومه صلى الله عليه وسلم. اهـ.

.قال الثعلبي:

سمعت الأستاذ أبا القاسم الحبيبي يقول: كان لهارون الرشيد غلام نصراني متطبّب وكان أحسن خلق الله وجهًا وأكملهم أدبًا وأجمعهم للخصال التي يتوسل بها إلى الملوك وكان الرشيد مولعًا بأن يسلم وهو ممتنع وكان الرشيد يمنيه الأماني فيأبى فقال له ذات يوم: مالك لاتؤمن؟ قال: لأن في كتابكم حجة على من انتحله، قال وما هو؟ قال: قوله: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ} أفغير هذا دين النصارى أن عيسى جزء منه، فغمّ قلب الرشيد لذلك فدعا العلماء والفقهاء فلم يكن منهم من يزيل تلك الشبهة حتى قيل: قدم حجاج خراسان وفيهم رجل يقال له علي بن الحسين بن واقد من أهل مرو إمام في أهل القرآن، فدعاه وجمع بينه وبين الغلام، فسأل الغلام فأعاد قوله، فاستعجم على علي بن الحسين الوقت جوابه فقال: يا أمير المؤمنين قد علم الله في سابق علمه أن مثل هذا الحدث يسألني في مجلسك، وإنه لم يخل كتابه من جوابي وليس يحضرني في الوقت لله عليَّ أن لا أُطعم حتى آتي الذي فيأمن حقها إن شاء الله، فدخل بيتًا مظلمًا، وأغلق عليه بابه وانشغل في قراءة القرآن حتى بلغ سورة الجاثية {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13] فصاح بأعلى صوته: افتحوا الباب فقد وجدت، ففتحوا، ودعا الغلام وقرأ عليه الآية بين يدي الرشيد، وقال: إن كان قوله: {وروح منه} توجبان عيسى بعض منه وجب أن يكون ما في السماوات وما في الأرض بعضًا منه، فانقطع النصراني وأسلم وفرح الرشيد فرحًا شديدًا ووصل علي بن الحسين بصلة فاخرة فلما عاد إلى مرو صنف كتاب «النظائر في القرآن» وهو كتاب لايوازيه في بابه كتاب. اهـ.

.قال السيوطي:

الروح ورد على أوجه:
1- الأمر وروح منه.
2- والوحي ينزل الملائكة بالروح.
3- والقرآن أوحينا إليك روحا من أمرنا.
4- والرحمة وأيدهم بروح منه.
5- والحياة فروح وريحان.
6- وجبريل فأرسلنا إليها روحنا نزل به الروح الأمين.
7- وملك عظيم يوم يقوم الروح.
8- وجيش من الملائكة تنزل الملائكة والروح فيها.
9- وروح البدن ويسألونك عن الروح. اهـ.

.قال الفخر:

{فآمنوا بالله ورسله} أي أن عيسى من رسل الله فآمنوا به كإيمانكم بسائر الرسل ولا تجعلوه إلهًا.
ثم قال: {وَلاَ تَقُولُواْ ثلاثة انتهوا خَيْرًا لَّكُمْ} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى:
المعنى: ولا تقولوا إن الله سبحانه واحد بالجوهر ثلاثة بالأقانيم.
واعلم أن مذهب النصارى مجهول جدًا، والذي يتحصل منه أنهم أثبتوا ذاتًا موصوفة بصفات ثلاثة، إلا أنهم وإن سموها صفات فهي في الحقيقة ذوات، بدليل أنهم يجوزون عليها الحلول في عيسى وفي مريم بأنفسها، وإلا لما جوزوا عليها أن تحل في الغير وأن تفارق ذلك الغير مرة أخرى، فهم وإن كانوا يسمونها بالصفات إلا أنهم في الحقيقة يثبتون ذوات متعددة قائمة بأنفسها، وذلك محض الكفر، فلهذا المعنى قال تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ ثلاثة انتهوا} فأما إن حملنا الثلاثة على أنهم يثبتون صفات ثلاثة، فهذا لا يمكن إنكاره، وكيف لا نقول ذلك وإنا نقول: هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام العالم الحي القادر المريد، ونفهم من كل واحد من هذه الألفاظ غير ما نفهمه من اللفظ الآخر، ولا معنى لتعدد الصفات إلا ذلك، فلو كان القول بتعدد الصفات كفرًا لزم رد جميع القرآن ولزم رد العقل من حيث إنا نعلم بالضرورة أن المفهوم من كونه تعالى عالمًا غير المفهوم من كونه تعالى قادرًا أو حيًا.
المسألة الثانية:
قوله: {ثلاثة} خبر مبتدأ محذوف، ثم اختلفوا في تعيين ذلك المبتدأ على وجوه الأول: ما ذكرناه، أي ولا تقولوا الأقانيم ثلاثة.
الثاني: قال الزجاج: ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة، وذلك لأن القرآن يدل على أن النصارى يقولون: إن لله والمسيح ومريم ثلاثة آلهة، والدليل عليه قوله تعالى: {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} [المائدة: 116] الثالث: قال الفراء ولا تقولوا هم ثلاثة كقوله: {سَيَقُولُونَ ثلاثة} [الكهف: 22] وذلك لأن ذكر عيسى ومريم مع الله تعالى بهذه العبرة يوهم كونهما إلهين، وبالجملة فلا نرى مذهبًا في الدنيا أشد ركاكة وبعدًا عن العقل من مذهب النصارى. اهـ.